وظل النوخذة واقفا ً عند السياج الحديدي، يراقب برج القيادة، دون أن يرفع صوته مرة أخرى. صعد إلى قمرة القيادة مرة أخيرة، لكن القبطان أشار له ببرودة أن يعود إلى مكان جلوسه، قائلاً: "السيد المسافر، التزامك بالصمت هو الأفضل لك ولنا."
عادت الباخرة تمخر عباب البحر بنفس الاتجاه، بينما بدأ النوخذة يحسب بيده على الورقة والقلم، وعلامات القلق تعود إلى عينيه. لم يمر وقت طويل حتى اهتزت الباخرة فجأة اهتزازاً عنيفاً وصوتاً مدوياً، تلاه صرير مرعب، وكأن جسماً صلباً يمزق المعدن. عمت الفوضى والذعر، وتطايرت البضائع، وسقط المسافرون، وأخذت مياه البحر المالحة تتسلل من شقٍ كبير في المقدمة.
أدرك القبطان أن النوخذة كان على حق. صرخ بأعلى صوته محاولاً إيقاف الآلات والسيطرة على الكارثة، لكن الأوان كان قد فات. كان النوخذة لا يزال متماسكاً، لكن الحزن والأسى ظهرا على وجهه.
اتجه القبطان نحو النوخذة وهو يمسك بغطاء رأسه المتساقط، وعيناه ممتلئتان بالندم، وقال بصوت متقطع:
* سامحني... أيها الكابتن... لم أثق إلا بالخرائط..."
أجاب النوخذة، وهو يشير إلى البحر الذي ابتلع سفينتهم ببطء:
* الخرائط لا تبين كل شيء يا قبطان. البحر لا يغفر الغرور."
لم تكد الباخرة تمر ساعتين بعد الاصطدام حتى غاصت بكاملها، ولم ينجُ منها إلا القليل ممن تمكنوا من ركوب قوارب النجدة، وظلت خبرة النوخذة الصادقة شاهدة على عناد القبطان الذي دفع ثمنه باهظاً.
0
0